فصل: تفسير الآيات رقم (111- 113)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏100‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي‏:‏ أنزلنا إليك علامات واضحات دالة على نبوتك‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الفاسقون‏}‏ قد تقدّم تفسيره، والظاهر أن المراد جنس الفاسقين، ويحتمل أن يراد اليهود؛ لأن الكلام معهم، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كُلَّمَا‏}‏ للعطف دخلت عليها همزة الاستفهام كما تدخل على الفاء، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ وكما تدخل على ثم، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 51‏]‏ وهذا قول سيبويه‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ الواو زائدة‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إنها «أو» حركت الواو تسهيلاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا كله متكلف، والصحيح قول سيبويه، والمعطوف عليه محذوف، والتقدير‏:‏ أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏نَبَذَ فَرِيقٌ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ أصل النبذ الطرح، والإلقاء، ومنه سمى اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر، والزبيب إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود‏:‏

نظرتَ إلى عنوانه فنبذته *** كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا

وقال آخر‏:‏

إن الَّذين أمَرْتَهم أن يَعْدِلُوا *** نبذوا كتابك واستحل المحرمَا

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَاء ظُهُورِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ خلف ظهورهم، وهو‏:‏ مثل يُضرب لمن يستخف بالشيء، فلا يعمل به، تقول العرب‏:‏ اجعل هذا خلف ظهرك، ودبر أذنك، وتحت قدمك‏:‏ أي اتركه، واعرض عنه، ومنه ما أنشده الفراء‏:‏

تميم بنُ زيدٍ لا تكوننَّ حَاجَتِي *** بظَهرٍ فلا يَعْيَا عليّ جوابُها

وقوله‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ أي‏:‏ التوراة؛ لأنهم لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل عليه بعد أن أخذ الله عليهم في التوراة الإيمان به، وتصديقه، واتباعه، وبين لهم صفته، كان ذلك منهم نبذاً للتوراة، ونقضاً لها، ورفضاً لما فيها، ويجوز أن يراد بالكتاب هنا‏:‏ القرآن، أي‏:‏ لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم من التوراة نبذوا كتاب الله الذي جاء به هذا الرسول، وهذا أظهر من الوجه الأول‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ تشبيه لهم بمن لا يعلم شيئاً، مع كونهم يعلمون علماً يقيناً من التوراة بما يجب عليهم من الإيمان بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لما لم يعملوا بالعلم بل عملوا عمل من لا يعلم من نبذ كتاب الله وراء ظهورهم، كانوا بمنزلة من لا يعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏نبذوا‏}‏ أي‏:‏ نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه‏.‏ قال الطبري‏:‏ اتبعوا بمعنى فعلوا‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏تتلو‏}‏ تتقوّله، وتقرؤه و‏{‏على مُلْكِ سليمان‏}‏ على عهد ملك سليمان، قاله الزجاج، وقيل المعنى في ملك سليمان‏:‏ يعني في قصصه، وصفاته، وأخباره‏.‏

قال الفراء‏:‏ تصلح «على»، وفي «في» هذا الموضع، والأوّل أظهر، وقد كانوا يظنون أن هذا هو‏:‏ علم سليمان، وأنه يستجيزه، ويقول به، فردّ الله ذلك عليهم، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ‏}‏ ولم يتقدم أنّ أحداً نسب سليمان إلى الكفر، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه إلى الكفر؛ لأن السحر يوجب ذلك، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال‏:‏ ‏{‏ولكن الشياطين كَفَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ بتعليمهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يُعَلّمُونَ الناس السحر‏}‏ في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر‏.‏ وقرأ ابن عامر، والكوفيون سوى عاصم‏:‏ «ولكن الشياطين» بتخفيف لكن، ورفع الشياطين، والباقون بالتشديد والنصب‏.‏

والسحر هو‏:‏ ما يفعله الساحر من الحيل والتخيلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة، أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبيّ‏:‏ إذا خدعته‏.‏ وقيل‏:‏ أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله خفية‏.‏ وقيل أصله الصرف؛ لأن السحر مصروف عن جهته‏.‏ وقيل أصله الاستمالة؛ لأن من سحرك، فقد استمالك‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودقَّ، فهو سحر‏.‏ وقد سحره يسحره، سحراً‏.‏ والساحر‏:‏ العالم، وسحره أيضاً بمعنى خدعه‏.‏ وقد اختلف‏:‏ هل له حقيقة أم لا‏؟‏ فذهبت المعتزلة، وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له، ولا حقيقة‏.‏ وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة‏.‏ وقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، سحره لُبيد بن الأعصم اليهودي، حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه، ثم شفاه الله سبحانه، والكلام في ذلك يطول‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ أي‏:‏ ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين، فهو معطوف على السحر، وقيل‏:‏ هو معطوف على قوله‏:‏ «ما تتلو الشياطين» أي‏:‏ واتبعوا ما أنزل على الملكين‏.‏ وقيل إن «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ نافية، والواو عاطفة على قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سليمان‏}‏ وفي الكلام تقديم، وتأخير، والتقدير‏:‏ وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت، وماروت، فهاروت، وماروت بدل من الشياطين في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الشياطين كَفَرُواْ‏}‏ ذكر هذا ابن جرير، وقال‏:‏ فإن قال لنا قائل‏:‏ وكيف وجه تقديم ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ وجه تقديمه أن يقال‏:‏ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين، ولكنّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل؛ لأن سحرة اليهود، فيما ذكر، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل، إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت، والآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت، على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردّاً عليهم‏.‏

انتهى‏.‏

وقال القرطبي في تفسيره، بعد أن حكى معنى هذا الكلام، ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين، ما لفظه‏:‏ هذا أولى ما حملت عليه الآية، وأصح ما قيل فيها، ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء، وخاصة في حال طمثهن، قال الله‏:‏ ‏{‏وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد‏}‏ ‏[‏الفلق‏:‏ 4‏]‏ ثم قال‏:‏ إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع، والبدل إنما يكون على حدّ المبدل‏؟‏ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع، أو أنهما خُصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن‏:‏ «الملكين» بكسر اللام، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده، وظهور تكلفه، تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى ارضه، فتنة لعباده على ألسن ملائكته‏.‏ وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وبابل قيل‏:‏ هي العراق، وقيل نهاوند، وقيل نصيبين‏.‏ وقيل المغرب‏:‏ وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه، قال‏:‏ وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه‏:‏ أنهما يعلمان على النهي، فيقولان لهم‏:‏ لا تفعلوا كذا‏.‏ و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏من أحد‏}‏ زائدة للتوكيد، وقد قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏يعلمان‏}‏ من الإعلام لا من التعليم، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، كما حكاه ابن الأنباري، وابن الأعرابي، وهو كثير من أشعارهم كقول كعب بن مالك‏:‏

تعلَّم رسول اللهِ أنَّك مُدْرِكي *** وَأنَّ وَعِيداً مْنِك كالأخْذِ باليَدِ

وقال القطامي‏:‏

تعلَّم أن بعد الغَيّ رُشداً *** وأن لذلك الغيّ انْقِشاعاً

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ‏}‏ هو‏:‏ على ظاهره، أي‏:‏ إنما نحن ابتلاء، واختبار من الله لعباده‏.‏ وقيل‏:‏ إنه استهزاء منهما؛ لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله‏.‏ وفي قولهما‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكْفُرْ‏}‏ أبلغ إنذار، وأعظم تحذير، أي‏:‏ أن هذا ذنب يكون مَنْ فعله كافراً، فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد، وغير المعتقد، وبين من تعلمه ليكون ساحراً، ومن تعلمه ليقدر على دفعه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ‏}‏ فيه ضمير يرجع إلى قوله‏:‏ «مِنْ أحَدٍ» قال سيبويه‏:‏ التقدير، فهم يتعلمون، قال‏:‏ ومثله ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ وقيل هو‏:‏ معطوف على موضع ما يعلمان؛ لأنه وإن كان منفياً، فهو يتضمن الإيجاب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هي مردودة على قوله‏:‏ «يعلمون الناس السحر» أي‏:‏ يعلمون الناس، فيتعلمون، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ‏}‏ في إسناد التفريق إلى السحرة، وجعل السحر سبباً لذلك دليل على أن للسحر تأثيراً في القلوب بالحبّ والبغض، والجمع، والفرقة، والقرب، والبعد‏.‏ وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة؛ لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر، وبين ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره‏.‏ وقالت طائفة أخرى‏:‏ إن ذلك خرج مخرج الأغلب، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه، وقيل ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ والحق أنه لا تنافي بين قوله‏:‏ ‏{‏فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه، وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه، وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة، وأبو حنيفة كما تقدم،

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة، ولا يجلب إليه منفعة بل هو‏:‏ ضرر محض، وخسران بحت، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ‏}‏ جواب قسم محذوف، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَمَنِ اشتراه‏}‏ للتأكيد و«مَنْ» موصولة، وهي في محل رفع على الابتداء، والخبر قوله‏:‏ ‏{‏مَالَهُ فِى الأخرة مِنَ خلاق‏}‏ وقال الفراء‏:‏ إنها شرطية للمجازاة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ليس هذا بموضع شَرط، ورجح أنها موصولة كما ذكرنا‏.‏ والمراد بالشراء هنا‏:‏ لاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله‏.‏ والخَلاق‏:‏ النصيب عند أهل اللغة، كذا قال الزجاج‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ باعوها‏.‏ وقد أثبت لهم العلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ‏}‏ ونفاه عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ واختلفوا في توجيه ذلك، فقال قطرب، والأخفش‏:‏ إن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمُواْ‏}‏ الشياطين، والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ الإنس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن الأول للملكين، وإن كان بصيغة الجمع، فهو مثل قولهم‏:‏ الزيدان قاموا، والثاني‏:‏ المراد به علماء اليهود‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ لأنهم تركوا العمل بعلمهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ‏}‏ أي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من القرآن، ‏{‏واتقوا‏}‏ ما وقعوا فيه من السحر، والكفر‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لَمَثُوبَةٌ‏}‏ جواب ‏"‏ لو ‏"‏، والمثوبة‏:‏ الثواب‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن الجواب محذوف، والتقدير، ولو أنهم آمنوا، واتقوا لأثيبوا، فحذف لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏لمثوبة‏}‏ عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ هو‏:‏ إما للدلالة على أنه لا علم لهم، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس‏:‏ «قال ابن صوريا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء يعرف، وما أنزل الله عليك من آية بينة، فأنزل الله تعالى في ذلك‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون‏}‏ وقال مالك بن الصيف، حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد‏:‏ والله ما عهد إلينا في محمد، ولا أخذ علينا شيئاً، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه في قوله‏:‏ ‏{‏آيات بَيّنَاتٍ‏}‏ يقول‏:‏ فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة، وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أميّ لم تقرأ الكتاب، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، ففي ذلك عبرة لهم، وحجة عليهم ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏نبذة‏}‏ نقضه‏.‏ وأخرج أيضاً عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ‏}‏ قال‏:‏ لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة، واتفقت التوراة، والقرآن، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وتصديقه‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال‏:‏ إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقّ كذب معها ألف كذبة، فأشْرِبَتْها قلوب الناس، واتخذوها دواوين، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود، فأخذها، فدفنها تحت الكرسي‏.‏ فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق، فقال‏:‏ ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فأخرجوه فإذا هو‏:‏ سحر، فتناسختها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان، فيما قالوا من السحر، فقال‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين على مُلْكِ سليمان‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا‏:‏ هذا الذي كان سليمان يعمل بها، فأكفره جهال الناس، وسبوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد‏:‏ ‏{‏واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين‏}‏ الآية، وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من شأنه أعطى الجرادة، وهي‏:‏ امرأته، خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها‏:‏ هاتي خاتمي، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين، والجنّ، والإنس، فجاء سليمان، فقال‏:‏ هاتي خاتمي، فقالت له‏:‏ كذبت لست سليمان، فعرف أنه بلاء ابتلى به، فانطلقت الشياطين، فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر، وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها، فقرءوها على الناس، وقالوا‏:‏ إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرئ الناس من سليمان، وأكفروه حتى بعث الله محمداً، وأنزل عليه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُو‏}‏ وأخرج ابن جرير، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَتْلُو‏}‏ قال‏:‏ ما تتبع‏.‏

وأخرج أيضاً عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏مَا تَتْلُواْ‏}‏ قال‏:‏ نراه ما تحدث‏.‏ وأخرج أيضاً عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏على مُلْكِ سليمان‏}‏ يقول‏:‏ في ملك سليمان‏.‏

وأخرج أيضاً عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ قال‏:‏ هذا سحر آخر خاصموه به، فإن كلام الملائكة، فيما بينهم إذا علمته الإنس، فصنع، وعمل به كان سحراً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ قال‏:‏ لم ينزل الله السحر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عليّ قال‏:‏ هما ملكان من ملائكة السماء‏.‏ وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً‏.‏ وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ يعني جبريل وميكائيل‏:‏ ‏{‏بِبَابِلَ هاروت وماروت‏}‏ يعلمان الناس السحر‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن، بن أبزي أنه كان يقرؤها وما أنزل على الملكين داود، وسليمان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال‏:‏ هما علجان من أهل بابل‏.‏ وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث، ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشرفت الملائكة على الدنيا، فرأت بني آدم يعصون، فقالت يا رب ما أجهل هؤلاء، ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك‏؟‏ فقال الله‏:‏ لو كنتم في محلاتهم لعصيتموني، قالوا‏:‏ كيف يكون هذا، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك‏؟‏ قال‏:‏ فاختاروا منكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض، وركبت، فيهما شهوات بني آدم، ومثلت لهما امرأة، فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله‏:‏ اختارا عذاب الدنيا، أو عذاب الآخرة، فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول‏؟‏ قال‏:‏ أقول إن عذاب الدنيا ينقطع، وإن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين‏}‏ الآية»

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر، أنه كان يقول‏:‏ أطلعت الحمراء بعد، فإذا رآها قال‏:‏ لا مرحباً، ثم قال‏:‏ إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس، فإذا أمسيا تكلما بكلمات، فعرجا بها إلى السماء، فقيض لهما امرأة من أحسن النساء، وألقيت عليهما الشهوة، فجعلا يؤخرانها، وألقيت في أنفسهما، فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعاداً، فأتتهما للميعاد فقالت‏:‏ علماني الكلمة التي تعرجان بها، فعلماها الكلمة فتكلمت بها فعرجت إلى السماء، فمسخت فجُعلت كما ترون، فلما أمسيا تكلما بالكلمة، فلم يعرجا، فبعث إليهما‏:‏ إن شئتما فعذاب الآخرة، وإن شئتما، فعذاب الدنيا إلي أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله، فإن شاء عذبكما، وإن شاء رحمكما، فنظر أحدهما إلي صاحبه، فقال‏:‏ بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف، فهما يعذبان إلى يوم القيامة‏.‏ وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ، وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار‏.‏ كما أخرجه عبد الرزاق، وابن شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب من طريق الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب قال‏:‏ ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذنوب، فقيل لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما‏:‏ إني أرسل إلى بني آدم رسلاً، فليس بيني، وبينكم رسول‏.‏ انزلا لا تشركا بي شيئاً، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر، قال كعب‏:‏ فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استعملا جميع ما نهيا عنه‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهذا أصح، يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب، قال‏:‏ إن هذه الزهرة تسميها العربُ الزهرةَ، والعجمُ أناهيدَ، وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر، عند الحاكم‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جداً‏.‏ وقد أخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه عن ابن عباس، قال‏:‏ كانت الزهرة امرأة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عنه؛ أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت، فهي هذه الكوكبة الحمراء؛ يعني الزهرة‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه، فذكر قصة طويلة، وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر، وزنيا بالمرأة، وقتلاها‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وابن عباس هذه القصة، وقالا‏:‏ إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة، وأنهما وقعا في الخطيئة‏.‏

وقد روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدرّ المنثور‏.‏

وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها، ثم قال‏:‏ وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد، والسدّي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين، والمتأخرين‏.‏ وحاصلها راجع في تفصليها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد، إلى الصادق المصدوق المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال‏.‏ انتهى‏.‏

وقال القرطبي بعد سياق بعض ذلك‏:‏ قلنا هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر، غيره لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم‏:‏ أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله ‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏، ثم ذكر ما معناه‏:‏ أن العقل يجوِّز وقوع ذلك منهم، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع، ولم يصح‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول هذا مجرد استبعاد‏.‏ وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك، فعلى فرض، وجود هذه الأصول، فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة، ولا وجه لمنع التخصيص، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة، وصار أشرّ البرية، وأكفر العالمين‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ بلاء‏.‏ وأخرج البزار بإسناد صحيح، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، قال‏:‏ «من أتى ساحراً، أو كاهناً، وصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد»‏.‏ وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من تطير، أو تُطير له، أو تكهنَّ، تُكهن له أو سحر، أو سحَر له، ومن عقد عقدة، ومن أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ‏"‏ وأخرج عبد الرزاق، عن صفوان بن سُليمْ، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من تعلم شيئاً من السحر قليلاً، أو كثيراً كان آخر عهده من الله ‏"‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ خلاق‏}‏ قال‏:‏ قوام‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ ‏{‏مِنْ خلاق‏}‏ من نصيب، وكذا روى ابن جرير، عن مجاهد‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن الحسن‏:‏ ‏{‏مَا لَهُ فِى الأخرة مِنْ خلاق‏}‏ قال‏:‏ ليس له دين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ‏}‏ قال‏:‏ باعوا‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لَمَثُوبَةٌ‏}‏ قال‏:‏ ثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏105‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏رَاعِنَا‏}‏ أي‏:‏ راقبنا، واحفظنا، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى ‏{‏رَاعِنَا‏}‏‏:‏ ارعنا ونرعاك، واحفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك، ويجوز أن يكون من‏:‏ أرعنا سمعك، أي‏:‏ فرغه لكلامنا، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سباً، قيل إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت؛ وقيل غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم راعنا؛طلباً منه أن يراعيهم من المراعاة، اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي هو‏:‏ معنى هذا اللفظ في لغتهم وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ، والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سداً للذريعة ودفعاً للوسيلة، وقطعاً لمادة المفسدة، والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص، ولا يصلح للتعريض، فقال‏:‏ ‏{‏وَقُولُواْ انظرنا‏}‏ أي‏:‏ أقبل علينا، وانظر إلينا، فهو، من باب الحذف، والايصال، كما قال الشاعر‏:‏

ظَاهِراتُ الْجَمَال والحَسُنِ يَنْظُر *** نَ كَمَا يَنْظُر الأرَاكَ الظِّباءُ

أي‏:‏ إلى الأراك‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ انتظرنا وتأنّ بنا، ومنه قول الشاعر‏:‏

فإنكما إن تنظراني ساعةً *** من الدهر تنفعني لَدَى أمِّ جُنْدبَ

وقرأ الأعمش «انظرنا» بقطع الهمزة، وكسر الظاء، بمعنى أخرنا وأمهلنا، حتى نفهم عنك، ومنه قول الشاعر‏:‏

أبا هندٍ فلا تعجل علينا *** وأنظرنا نخبرِّك اليقينا

وقرأ الحسن‏:‏ «راعنا» بالتنوين، وقال‏:‏ الراعن من القول السخريِّ‏.‏ منه‏.‏ انتهى‏.‏ وأمرهم بعد هذا النهي، والأمر بأمر آخر وهو قوله‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ أي‏:‏ اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه، ومعناه‏:‏ أطيعوا الله في ترك خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك اللفظ، وخاطبوه ما أمرتم به، ويحتمل أن يكون معناه‏:‏ اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة، ثم توعد اليهود بقوله‏:‏ ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ويحتمل أن يكون وعيداً شاملاً لجنس الكفرة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا الحَبَلَة، ولا تقولوا عبدي، ولكن قولوا فتاي» وما أشبه ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ الآية، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه‏.‏

ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن يُنَزّلَ‏}‏ في محل نصب على المفعولية، و«من» في قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ خَيْرٍ‏}‏ زائدة، قاله النحاس، وفي الكشاف أن «من» في قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ بيانية، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ خَيْرٍ‏}‏ مزيدة لاستغراق الخير، وفي قوله‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ لابتداء الغاية، وقد قيل بأن الخير الوحي‏.‏ وقيل غير ذلك، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان، فهو لا يختص بنوع معين، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي، وتأكيد العموم بدخول «من» المزيدة عليها، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض، فذلك لا يوجب التخصيص‏.‏ والرحمة قيل‏:‏ هي القرآن‏.‏ وقيل النبوّة‏.‏ وقيل‏:‏ جنس الرحمة من غير تعيين كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى‏:‏ ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ أي‏:‏ صاحب الفضل العظيم، فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه، وأحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود؛ أن رجلاً أتاه، فقال‏:‏ اعهد إلىَّ، فقال‏:‏ إذا سمعت الله يقول‏:‏ فأوعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شرّ ينهي عنه‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏راعنا‏}‏ بلسان اليهود‏:‏ السبّ القبيح، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرّاً، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك، ويضحكون، فيما بينهم، فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عنه أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية‏:‏ من سمعتموه يقولها، فاضربوا عنقه‏.‏ فانتهت اليهود بعد ذلك‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدي قال‏:‏ كان رجلان من اليهود‏:‏ مالك بن الصيف، ورفاعة بن زيد، إذا لقيا النبيّ صلى الله عليه وسلم قالا له، وهما يكلمانه‏:‏ راعنا سمعك، واسمع غير مسمع، فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فقالوا‏:‏ ارعنا سمعك، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك، وأمرهم أن يقولوا‏:‏ ‏{‏انظرنا‏}‏ ليعزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوقروه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم، عن قتادة‏:‏ أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاءً، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم، وأخرج ابن حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ الرحمة القرآن والإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 107‏]‏

‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏106‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

النسخ في كلام العرب على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ النقل، كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً، أعنى من اللوح المحفوظ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية، ومنه‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏ أي نأمر بنسخه‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ الإبطال، والإزالة‏.‏ وهو المقصود هنا‏.‏ وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة‏.‏ أحدهما‏:‏ إبطال الشيء، وزواله، وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل‏:‏ إذا أذهبته، وحلت محله، وهو‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ‏}‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت» أي‏:‏ تحوّلت من حال إلى حال‏.‏ والثاني إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم‏:‏ نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى ‏{‏فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 52‏]‏ أي‏:‏ يزيله‏.‏ وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنزل عليه السورة، فترفع، فلا تتلى، ولا تكتب‏.‏ ومنه ما روي عن أُبيّ، وعائشة، أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمراً كان من قبل يعمل به، ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر، ثم تنسخ بأخرى، وكل شيء خلف شيئاً، فقد انتسخه، يقال نسخت الشمس الظل، والشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ‏}‏ ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله، ونغيره، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق والمنع، والإباحة، فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة أخرى، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره وسواء نسخ حكمها، أو خطها، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة‏.‏ انتهى‏.‏

وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن، فلا نطول بذكره، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه‏.‏ وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً، وخلفاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدَّ بخلافه ولا يؤبه لقوله‏.‏ وقد اشتهر عن اليهود، أقمأهم الله إنكاره، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة‏:‏ إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه، ثم وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره‏.‏

وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه، ثم قال الله له لا تذبحه، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير بفتح النون، والسين، والهمز، وبه قرأ عمر، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد وأبيّ بن كعب، وعبيد بن عمير والنخعي، وابن محيصن، ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ، من قولهم‏:‏ نسأت هذا الأمر‏:‏ إذا أخرته‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ ويقولون‏:‏ نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك‏.‏ وقد انتسأ القوم‏:‏ إذا تأخروا، وتباعدوا، ونسأتهم أنا‏:‏ أخرتهم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه نؤخر نسخ لفظها؛ أي نتركه في أم الكتاب، فلا يكون‏.‏ وقيل‏:‏ نذهبها عنكم حتى لا تقرأ، ولا تذكر، وقرأ الباقون ‏{‏نُنسِهَا‏}‏ بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك، أي‏:‏ نتركها، فلا نبدلها، ولا ننسخها، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ أي تركوا عبادته، فتركهم في العذاب‏.‏ واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، وحكى الأزهري أن معناه‏:‏ نأمر بتركها يقال‏:‏ أنسيته الشيء، أي أمرته بتركه، ونسيته تركته، ومنه قول الشاعر‏:‏

إن عليّ عُقْبة أقْضِيها *** لستُ بناسِيها ولا مُنْسِيها

أي‏:‏ ولا آمر بتركها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك، لا يقال‏:‏ أنسى بمعنى ترك؛ قال‏:‏ وما روى عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ قال‏:‏ نتركها لا نبدلها، فلا يصح، والذي عليه أكثر أهل اللغة، والنظر أن معنى‏:‏ ‏{‏أَوْ نُنسِهَا‏}‏ نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك، ثم تعديه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ نأت بما هو‏:‏ أنفع للناس منها في العاجل والآجل، أو في أحدهما، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخفّ، فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر، فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان، فتحصل المماثلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض‏}‏ أي‏:‏ له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد، والاختراع، ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده، وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها، وشرعها لهم‏.‏ وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال، والأزمنة، والأشخاص، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره، ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول، والامتثال، والتعظيم، والإجلال‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عدي، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال‏:‏ كان مما ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل، وينساه بالنهار، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ وفي إسناده الحجاج الرَّقِّي ينظر فيه‏.‏ وأخرج الطبراني، عن ابن عمر، قال‏:‏ «قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏ إنها مما نسخ، أو نسي، فالهوا عنها ‏"‏ وفي إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏"‏ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ ننسأها ‏"‏ يقول‏:‏ ما نبدل من آية، أو نتركها لا نبدلها‏:‏ ‏{‏نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ يقول‏:‏ خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه أنه قال‏:‏ ننسأها نؤخرها‏.‏ وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ‏}‏ قال‏:‏ نثبت خطها ونبدل حكمها‏:‏ ‏"‏ أَوْ ننساها ‏"‏ قال‏:‏ نؤخرها‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ يقول فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر، فيها نهي‏.‏

وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وأبو ذرّ الهروى في فضائله، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف؛ «أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل‏:‏ فقام بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها، فلم يقدر عليها، وقام آخر، فلم يقدر عليها، فأصبحوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده، فأخبروه، فقال‏:‏ ‏"‏ إنها نسخت البارحة ‏"‏ وقد روى نحوه عنه من وجه آخر‏.‏ وقد ثبت في البخاري، وغيره عن أنس، أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة‏:‏ «أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضى عنا، وأرضانا» ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم، وغيره عن أبي موسى قال‏:‏ كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول، والشدّة ببراءة، فأنسيتُها، غير أني حفظت منها‏:‏ «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أوّلها ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 1، الحشر‏:‏ 1، الصف‏:‏ 1‏]‏ فأنسيناها، غير أني حفظت منها‏:‏ «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روى مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق، وأحمد، وابن حبان، عن عمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏108‏)‏ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏109‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ‏}‏ هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل، أي‏:‏ بل تريدون، وفي هذا توبيخ، وتقريع، والكاف في قوله‏:‏ ‏{‏كَمَا سُئِلَ‏}‏ في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ سؤالاً مثل ما سئل موسى من قبل، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة، وسألوا محمداً صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن يأتي بالله، والملائكة قبيلاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سَوَآء‏}‏ هو الوسط من كل شيء قاله أبو عبيدة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى سَوَاء الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 55‏]‏ ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

يَا وَيْحَ أصْحابِ النَّبيّ وَرهْطِه *** بَعْد المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

وقال الفراء‏:‏ السواء‏:‏ القصد، أي‏:‏ ذهب عن قصد الطريق، وسمته أي‏:‏ طريق طاعة الله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم، وردّهم عن الإسلام، والتشكيك عليهم في دينهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْ يَرُدُّونَكُم‏}‏ في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يحتمل أن يتعلق بقوله ‏{‏ودّ‏}‏ أي‏:‏ ودّوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏حَسَدًا‏}‏ أي‏:‏ حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو‏:‏ علة لقوله‏:‏ ‏{‏ودّ‏}‏‏.‏ والعفو‏:‏ ترك المؤاخذة بالذنب‏.‏ والصفح‏:‏ إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان‏:‏ إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً‏:‏ إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك، والإرشاد إليه، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ‏}‏ هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح أي‏:‏ افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاؤه، وما قد قضى به في سابق علمه، وهو‏:‏ قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلى، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ حثّ من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة‏.‏ وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم، وينصرهم على المخالفين لهم‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ قال رافع بن حُريَمْلة، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد ائتنا بكتاب يَنزَّل علينا من السماء نقرؤه، أو فجِّر لنا أنهاراً نتَّبعك، ونصدقك، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ‏}‏ الى قوله ‏{‏سَوَاء السبيل‏}‏ وكان حيي بن أخطب ‏[‏وأبو ياسر بن أخطب‏]‏ من أشدّ اليهود حسداً للعرب، إذ خصهم الله برسوله، وكانا جاهديْن في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن السدي؛ قال‏:‏ سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرةً، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال‏:‏ قال رجل‏:‏ لو كانت كفَّاراتنا كفَّارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أعطاكم الله خيرٌ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه، وكفَّارتَها، فإن كفَّرها كانت له خزاياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة‏.‏ وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏ الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ‏}‏» الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال‏:‏ «نعم، وهو‏:‏ لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم» فأبوا ورجعوا، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ‏}‏ أن يريهم الله جهرة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان‏}‏ قال‏:‏ يتبدل الشدّة بالرخاء‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل‏}‏ قال‏:‏ عدل عن السبيل‏.‏

وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك، قال‏:‏ كان اليهود، والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أشدّ الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ وفي الصحيحين، وغيرهما عن أسامة بن زيد، قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعفون عن المشركين، وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم‏}‏ الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الربيع بن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ من قبل أنفسهم‏:‏ ‏{‏مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق‏}‏ يقول‏:‏ إن محمداً رسول الله‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، نحوه وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاعفوا واصفحوا‏}‏ وقوله ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 106‏]‏ ونحو هذا في العفو عن المشركين قال‏:‏ نسخ ذلك كله بقوله ‏{‏قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآية، وقوله ‏{‏اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ‏}‏ يعنى من الأعمال من الخير في الدنيا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏تَجِدُوهُ عِندَ الله‏}‏ قال‏:‏ تجدوا ثوابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏111‏)‏ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏112‏)‏ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏هُودًا‏}‏ قال الفراء‏:‏ يجوز أن يكون هوداً بمعنى يهودياً، وأن يكون جمع هائد‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ «من»، والجمع في قوله‏:‏ ‏{‏هوداً‏}‏ باعتبار معنى «من»، قيل‏:‏ في هذا الكلام حذف، وأصله‏:‏ وقالت اليهود‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً‏.‏ هكذا قال كثير من المفسرين، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف، وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود، والنصارى وقع منهم هذا القول، وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم، ووجه القول بأن في الكلام حذفاً ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلل الأخرى، وتنفي عنها أنها على شيء من الدين فضلاً عن دخول الجنة كما في هذا الموضع، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت‏:‏ ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء، والأماني قد تقدّم تفسيرها، والإشارة بقوله‏:‏ تلك إلى ما تقدّم لهم من الأمانيّ التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم، وقيل إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة، والتقدير أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف ليطابق أمانيهم، قوله‏:‏ ‏{‏هَاتُواْ‏}‏ أصله هاتيوا حذفت الضمة لثقلها، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين، ويقال للمفرد المذكر‏:‏ هات، وللمؤنث هاتي، وهو‏:‏ صوت بمعنى أحْضر، والبرهان‏:‏ الدليل الذي يحصل عنده اليقين‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر، ويردّ على من ينفيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي‏:‏ في تلك الأمانيّ المجردة، والدعاوي الباطلة، ثم ردّ عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ وهو‏:‏ إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، أي‏:‏ ليس كما يقولون؛ بل يدخلها من أسلم وجهه لله‏.‏ ومعنى أسلم‏:‏ استسلم، وقيل‏:‏ أخلص‏.‏ وخص الوجه؛ بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان‏.‏ ولأنه موضع الحواس الظاهرة‏.‏ وفيه يظهر العزّ والذل، وقيل إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء، وأن المعنى هنا الوجه وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالوجه هنا المقصد، أي‏:‏ من أخلص مقصده وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ في محل نصب على الحال، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَجْهَهُ‏}‏ ‏{‏وَلَهُ‏}‏ باعتبار لفظ من، وفي قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ باعتبار معناها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ إن كانت الموصولة، فهي فاعل لفعل محذوف أي‏:‏ بلى يدخلها من أسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَهُ‏}‏ معطوف على‏:‏ ‏{‏من أسلم‏}‏ وإن كانت «من» شرطية، فقوله‏:‏ ‏{‏فله‏}‏ هو‏:‏ الجزاء، ومجموع الشرط، والجزاء ردّ على أهل الكتاب، وإبطال لتلك الدعوى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود‏}‏ وما بعده فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى، ويتضمن ذلك إثباته لنفسها تحجراً لرحمة الله سبحانه‏.‏

قال في الكشاف‏:‏ إن الشيء هو‏:‏ الذي يصح ويعتدّ به، قال‏:‏ وهذه مبالغة عظيمة؛ لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهكذا قولهم أقلّ من لا شيء‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب‏}‏ أي التوراة، والإنجيل، والجملة حالية، وقيل‏:‏ المراد جنس الكتاب، وفي هذا أعظم توبيخ، وأشدّ تقريع؛ لأن الوقوع في الدعاوى الباطلة، والتكلم بما ليس عليه برهان هو‏:‏ وإن كان قبيحاً على الإطلاق لكنه من أهل العلم، والدراسة لكتب الله أشدّ قبحاً، وأفظع جرماً، وأعظم ذنباً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ المراد بهم‏:‏ كفار العرب، الذين لا كتاب لهم قالوا‏:‏ مثل مقالة اليهود اقتداءً بهم؛ لأنهم جهلة لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم طائفة من اليهود، والنصارى، وهم الذين لا علم عندهم، ثم أخبرنا سبحانه بأنه المتولى لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه، فيعذب من يستحق التعذيب، وينجي من يستحق النجاة‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة‏}‏ الآية، قال‏:‏ قالت اليهود‏:‏ لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً‏:‏ ‏{‏تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏ قال‏:‏ أمانيّ يتمنونها على الله بغير حق‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ قال‏:‏ حجتكم‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ بما تقولونه أنه كما تقولون‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ يقول‏:‏ أخلص لله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هَاتُواْ برهانكم‏}‏ قال‏:‏ حجتكم، وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ‏}‏ قال‏:‏ أخلص دينه‏.‏

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار اليهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة‏:‏ ما أنتم على شيء وكفر بعيسى والإنجيل، فقال له رجل من أهل نجران‏:‏ ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى، وكفر بالتوراة، قال‏:‏ فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ كلّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ من هؤلاء الذين لا يعلمون‏؟‏ قال‏:‏ هم‏:‏ أمم كانت قبل اليهود والنصارى‏.‏ وأخرج ابن جرير عن السدي قال‏:‏ هم العرب قالوا ليس محمد على شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏114‏)‏ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏

هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه، وأنه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم‏:‏ أي‏:‏ لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، واسم الاستفهام في محل رفع على الابتداء، وأظلم خبره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه‏}‏ قيل‏:‏ هو بدل من مساجد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مفعول له بتقدير كراهية أن يذكر‏.‏ وقيل‏:‏ إن التقدير من أن يذكر، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام؛ وقيل إنه مفعول ثان لقوله‏:‏ ‏{‏مَنَعَ‏}‏ والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله‏:‏ منع من يأتي إليها للصلاة، والتلاوة، والذكر، وتعليمه‏.‏ والمراد بالسعي في خرابها‏:‏ هو السعي في هدمها، ورفع بنيانها، ويجوز أن يراد بالخراب تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها، فيكون أعم من قوله‏:‏ ‏{‏أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه‏}‏ فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد، كتعلم العلم وتعليمه، والقعود للاعتكاف، وانتظار الصلاة، ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين من باب عموم المجاز، كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم، وفيه إرشاد للعباد من الله عزّ وجل أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر من غير فرق بين مسجد ومسجد، وبين كافر وكافر، كما يفيده عموم اللفظ، ولا ينافيه خصوص السبب، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف، من أن يفطن لهم أحد من المسلمين، فينزلون بهم ما يوجب الإهانة، والإذلال، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا، والخزي‏:‏ قيل‏:‏ هو ضرب الجزية عليهم، وإذلالهم، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم تفسيره‏.‏ والمشرق‏:‏ موضع الشروق‏.‏ والمغرب‏:‏ موضع الغروب، أي‏:‏ هما ملك لله، وما بينهما من الجهات، والمخلوقات، فيشمل الأرض كلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ‏}‏ أي‏:‏ أيّ جهة تستقبلونها، فهناك وجه الله، أي‏:‏ المكان الذي يرتضى لكم استقباله، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ قال في الكشاف‏:‏ والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام، أو‏:‏ في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً، فصلوا في أيّ بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان، لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد، ولا في مكان دون مكان‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا التخصيص لا وجه له، فإن اللفظ أوسع منه‏.‏

وإن كان المقصود به بيان السبب، فلا بأس‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ‏}‏ فيه إرشاد إلى سعة رحمته‏.‏ وأنه يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم‏.‏ وقيل‏:‏ واسع بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 98‏]‏، وقال الفراء‏:‏ الواسع الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء‏.‏

وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ هم النصارى، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن السدي قال‏:‏ هم الروم كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ‏}‏ قال‏:‏ فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، وقد أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ‏}‏ قال‏:‏ أما خزيهم في الدنيا، فإنه إذا قام المهدي، وفتحت القسطنطينية قتلهم، فذلك الخزي‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة أنهم الروم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن كعب‏:‏ أنهم النصارى لما أظهروا على بيت المقدس حرقوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال‏:‏ هم‏:‏ المشركون حين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن البيت يوم الحديبية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي صالح قال‏:‏ ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ‏}‏ قال‏:‏ يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس، قال‏:‏ أوّل ما نسخ من القرآن، فيما ذكر لنا، والله أعلم شأن القبلة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ المشرق والمغرب‏}‏ الآية، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق، ونسخها فقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 149‏]‏، وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن ابن عمر قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوّعاً أينما توجهت به»، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية‏:‏ ‏{‏فأينما * تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله‏}‏ وقال‏:‏ في هذا أنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج نحوه عنه ابن جرير، والدارقطني، والحاكم وصححه‏:‏ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

«أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة، وصلى»‏.‏ وروى نحوه من حديث أنس مرفوعاً أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وضعفه، وابن ماجه وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة؛ قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلاً، فجعل الرجل يأخذ الأحجار، فيعمل مسجداً، فيصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ المشرق والمغرب‏}‏ الآية، فقال‏:‏ «مضت صلاتكم» وأخرج الدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي عن جابر مرفوعاً نحوه، إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطاً‏.‏ وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف، عن ابن عباس مرفوعاً‏.‏ وأخرج نحوه أيضاً سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عطاء يرفعه، وهو مرسل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَثَمَّ وَجْهُ الله‏}‏ قال‏:‏ قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وصححه وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وأخرج ابن أبي شيبة، والدارقطني، والبيهقي، عن ابن عمر مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي عن عمر نحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 118‏]‏

‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏116‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏117‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ هم اليهود والنصارى، وقيل اليهود‏:‏ أي قالوا‏:‏ ‏{‏عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وقيل النصارى‏:‏ أي‏:‏ ‏{‏قَالُواْ المسيح ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وقيل‏:‏ هم كفار العرب‏:‏ أي‏:‏ قالوا الملائكة بنات الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ قد تقدم تفسيره، والمراد هنا تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَل لَّهُ مَا فِي السموات والأرض‏}‏ ردّ على القائلين‏:‏ بأنه اتخذ ولداً، أي بل هو مالك لما في السموات، والأرض، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه، والولد من جنسهم لا من جنسه، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد‏.‏ والقانت‏:‏ المطيع الخاضع، أي‏:‏ كل من في السموات والأرض مطيعون له، خاضعون لعظمته، خاشعون لجلاله‏.‏ والقنوت في أصل اللغة أصله القيام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ فالخلق قانتون، أي‏:‏ قائمون بالعبودية، إما إقراراً، وإما أن يكونوا على خلاف ذلك، فأثر الصنعة بين عليهم، وقيل أصله الطاعة، ومنه ‏{‏والقانتين والقانتات‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏ وقيل‏:‏ السكون، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ ولهذا قال زيد بن أرقم‏:‏ كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت ‏{‏وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين‏}‏ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام‏.‏ وقيل القنوت‏:‏ الصلاة، ومنه قول الشاعر‏:‏

قَانِتاً لله يَتْلو كتُبْه *** وَعَلى عَمدٍ من النَّاسِ اعْتَزَل

والأولى أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة، قيل‏:‏ هي ثلاثة عشر معنى، وهي مبنية، وقد نظمها بعض أهل العلم، كما أوضحت ذلك في شرحي علم المنتقى‏.‏ وبديع‏:‏ فعيل للمبالغة، وهو خبر مبتدأ، محذوف، أي‏:‏ هو بديع سمواته، وأرضه، أبدع الشيء‏:‏ أنشأه لا عن مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له مبدع‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قضى أَمْرًا‏}‏ أي‏:‏ أحكمه، وأتقنه‏.‏ قال الأزهري‏:‏ قضى في اللغة على وجوه مرجعها الى انقطاع الشيء، وتمامه، قيل‏:‏ هو مشترك بين معان، يقال قضى بمعنى‏:‏ خلق، ومنه‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏ وبمعنى أعلم، ومنه‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4‏]‏ وبمعنى أمر، ومنه‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ ألا لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إيّاه‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏ وبمعنى ألزم، ومنه‏:‏ قضى عليه القاضي، وبمعنى أوفاه، ومنه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏ وبمعنى أراد ومنه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 68‏]‏، والأمر واحد الأمور‏.‏

وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى‏:‏ الأوّل الدين، ومنه‏:‏ ‏{‏حتى جَاء الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 48‏]‏ الثاني‏:‏ بمعنى القول، ومنه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 27‏]‏ الثالث‏:‏ العذاب، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا قُضِىَ الأمر‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ الرابع‏:‏ عيسى، ومنه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قضى أَمْراً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 35‏]‏ أي‏:‏ أوجد عيسى عليه السلام‏.‏ الخامس القتل، ومنه ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 78‏]‏ السادس‏:‏ فتح مكة، ومنه‏:‏ ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ السابع‏:‏ قتل بني قريظة، وإجلاء النضير، ومنه‏:‏

‏{‏فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏، الثامن‏:‏ القيامة، ومنه‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ التاسع‏:‏ القضاء، ومنه‏:‏ ‏{‏يُدَبّرُ الأمر‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏، العاشر الوحي، ومنه‏:‏ ‏{‏يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ الحادي عشر‏:‏ أمر الخلائق، ومنه‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 53‏]‏ الثاني عشر‏:‏ النصر، ومنه‏:‏ ‏{‏هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَئ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 154‏]‏‏.‏ الثالث عشر‏:‏ الذنب، ومنه‏:‏ ‏{‏فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 9‏]‏ الرابع عشر‏:‏ الشأن، ومنه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين، وليس تحت ذلك كثير فائدة، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ الظاهر في هذا المعنى الحقيقي، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ، وليس في ذلك مانع، ولا جاء ما يوجب تأويله، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 50‏]‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا ما أراد الله أمراً فإنما *** يقول له كن قوله فيكون

وقد قيل‏:‏ إن ذلك مجاز، وأنه لا قول، وإنما هو‏:‏ قضاء يقضيه، فعبر عنه بالقول، ومنه قول الشاعر، وهو عمر بن حممة الدوسي‏:‏

فَأصْبَحْتُ مِثْل النَّسْرِ طَارَ فَرِاخُه *** إذَا رَامَ تَطْيَاراً يُقَالُ لَهُ قَعِ

وقال آخر‏:‏

قالت جناحاه لساقيه الحقا *** ونجيا لحكمكما أن يمزقا

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ اليهود، وقيل النصارى، ورجّحه ابن جرير؛ لأنهم المذكورون في الآية؛ وقيل مشركو العرب، و‏"‏ لَوْلاَ ‏"‏ حرف تحضيض، أي‏:‏ هلا ‏{‏يُكَلّمُنَا الله‏}‏ بنبوّة محمد، فنعلم أنه نبيّ، ‏{‏أَوْ تَأْتِينَا‏}‏ بذلك علامة على نبوّته‏.‏ والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم‏}‏ قيل‏:‏ هم اليهود، والنصارى، في قول من جعل الذين لا يعلمون كفار العرب، أو الأمم السالفة، في قول من جعل الذين لا يعلمون اليهود، والنصارى، أو اليهود في قول من جعل الذين لا يعلمون النصارى ‏{‏تشابهت‏}‏ أي‏:‏ في التعنت، والاقتراح، وقال الفراء‏:‏ ‏{‏تشابهت‏}‏ في اتفاقهم على الكفر، ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعترفون بالحق، وينصفون في القول، ويذعنون لأوامر الله سبحانه لكونهم مصدقين له سبحانه مؤمنين بآياته متبعين لما شرعه لهم‏.‏

وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ «كذبني ابن آدم وشتمني، فأما تكذيبه إياي، فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي، فقوله لي ولد، فسبحاني أن اتخذ صاحبة، أو ولداً ‏"‏ وأخرج نحوه أيضاً من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ قال‏:‏ تنزيه الله نفسه عن السوء‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه سئل عن التسبيح أن يقول الإنسان‏:‏ سبحان الله، قال‏:‏ «برأه الله من السوء»‏.‏ وأخرجه الحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبيد الله، قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله، فقال‏:‏ «تنزيه الله من كل سوء»‏.‏ وأخرجه ابن مردويه، عنه من طريق أخرى مرفوعاً‏.‏ وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والضياء في المختارة، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت، فهو الطاعة» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ قال مطيعون‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السموات والأرض‏}‏ يقول‏:‏ ابتدع خلقهما، ولم يشركه في خلقهما أحد‏.‏ وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ قال‏:‏ قال رافع بن حُرَيْملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا محمد، إن كنت رسولاً من الله كما تقول، فقل لله، فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة؛ أنهم كفار العرب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال‏:‏ هم النصارى، والذين من قبلهم يهود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 121‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ‏(‏119‏)‏ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏120‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ يحتمل أن يكون منصوباً على الحال، ويحتمل أن يكون مفعولاً له، أي‏:‏ أرسلناك لأجل التبشير، والإنذار‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْئَلُ‏}‏ قرأه الجمهور بالرفع مبنياً للمجهول، أي‏:‏ حال كونك غير مسؤول، وقرئ بالرفع مبنياً للمعلوم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ويكون في موضع الحال عطفاً على ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ أي‏:‏ حال كونك غير سائل عنهم؛ لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم، وقرأ نافع‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُسْئَلُ‏}‏ بالجزم‏:‏ أي‏:‏ لا يصدر منك السؤال عن هؤلاء، أو لا يصدر منك السؤال عمن مات منهم على كفره، ومعصيته تعظيماً لحاله، وتغليظاً لشأنه، أي أن هذا أمر فظيع، وخطب شنيع، يتعاظم المتكلم أن يجريه على لسانه، أو يتعاظم السامع أن يسمعه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَن ترضى عَنكَ اليهود‏}‏ الآية، أي‏:‏ ليس غرضهم، ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات، ويوردونه من التعنتات، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون، وأجبتهم عن كل تعنت لم يرضوا عنك، ثم أخبره بأنهم لن يرضوا عنه حتى يدخل في دينهم ويتبع ملتهم، والملة‏:‏ اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه، وهكذا الشريعة، ثم ردّ عليهم سبحانه، فأمره بأن يقول لهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى‏}‏ الحقيقي، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة، والكتب المحرّفة ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتبع أهواءهم وحاول رضاهم وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم‏.‏ ويحتمل أن يكون تعريضاً لأمته، وتحذيراً لهم أن يوافقوا شيئاً من ذلك، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل، ويطلبوا رضا أهل البدع‏.‏

وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، وتتصدع منه الأفئدة، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه، والقائمين ببيان شرائعه، ترك الدِّهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء، التاركين للعمل بالكتاب والسنة، المؤثرين لمحض الرأي عليهما؛ فإن غالب هؤلاء، وإن أظهر قبولاً، وأبان من أخلاقه ليناً لا يرضيه إلا اتباع بدعته، والدخول في مداخله، والوقوع في حبائله، فإن فعل العالم ذلك بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه، وسنّة رسوله، لا ماهم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة، وجهالة بينة، ورأي منهار، وتقليد على شفا جرف هار، فهو إذ ذاك ما له من الله من وليّ، ولا نصير، ومن كان كذلك، فهو مخذول لا محالة، وهالك بلا شك، ولا شبهة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ قيل‏:‏ هم المسلمون، والكتاب هو‏:‏ القرآن، وقيل من أسلم من أهل الكتاب‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ‏}‏ أنهم يعلمون بما فيه، فيحلُّون حلاله، ويحرّمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏ أي‏:‏ اتبعها، كذا قيل، ويحتمل أن يكون من التلاوة‏:‏ أي‏:‏ يقرءونه حق قراءته لا يحرّفونه، ولا يبدّلونه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ مبتدأ وخبره ‏{‏يَتْلُونَهُ‏}‏ أو الخبر قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ مع ما بعده‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم‏}‏ فما ذكرهما حتى توفاه الله‏.‏ قال السيوطي‏:‏ هذا مرسل ضعيف الإسناد، ثم رواه من طريق ابن جرير، عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً، وقال‏:‏ هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به، ولا بالذي قبله حجة‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال‏:‏ ‏{‏الجحيم‏}‏ ما عظم من النار‏.‏ وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال‏:‏ إن يهود المدينة، ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود والنصارى‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ قال‏:‏ يحلون حلاله، ويحرّمون حرامه، ولا يحرّفونه عن مواضعه‏.‏ وأخرجوا عنه أيضاً قال‏:‏ يتبعونه حق اتباعه، ثم قرءوا‏:‏ ‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏ يقول اتبعها‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب، قال في قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ إذا مرَّ بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مرّ بذكر النار تعوَّذ بالله من النار‏.‏ وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ قال‏:‏ «يتبعونه حق اتباعه»، وكذا قال القرطبي في تفسيره‏:‏ أن في إسناده مجاهيل، قال‏:‏ لكن معناه صحيح، وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير من طرق، عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏(‏يحلون حلاله‏)‏ إلى آخره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن أسلم قال‏:‏ يتكلمون به كما أنزل، ولا يكتمونه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في هذه الآية قال‏:‏ هم أصحاب محمد، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب‏.‏ وأخرج وكيع، وابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ‏}‏ قال‏:‏ يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 125‏]‏

‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏122‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ‏(‏124‏)‏ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ قد سبق مثل هذا في صدر السورة، وتقدم تفسيره، ووجه التكرار الحثّ على اتباع الرسول النبي الأميّ، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره‏.‏ وقال البقاعي في تفسيره‏:‏ إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم، ثم في بيان عوارهم، وهتك أستارهم، وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم، وأحوالهم، وأقوالهم، أعاد ما صدّر به قصتهم من التذكير بالنعم، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الاْمم، ويدوم فيه الندم لمن زلت به القدم، ليعلم أن ذلك، فذلكة القصة، والمقصود بالذات الحثّ على انتهاز الفرصة‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ ليس هذا بشيء، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى، وأنه أعاد ما صدّر به قصتهم لذلك لكان الأولى بالتكرار، والأحق بإعادة الذكر هو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإياى فارهبون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ فإن هذه الآية مع كونها أوّل الكلام معهم والخطاب لهم في هذه السورة، هي أولى بأن تعاد، وتكرر لما فيها من الأمر بذكر النعم، والوفاء بالعهد، والرهبة لله سبحانه، وبهذا تعرف صحة ما قدّمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه، ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال‏:‏ كرّره تعالى إظهاراً لمقصد التئام آخر الخطاب بأوّله، وليتخذ هذا الإفصاح، والتعليم أصلاً، لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن حتى كان الخطاب إذاً انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية، فيتلوها ليكون في تلاوته جامعاً لطرفي الثناء، وفي تفهيمه جامعاً لمعاني طرفي المعنى‏.‏ انتهى‏.‏ وأقول‏:‏ لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك‏.‏ وأما قوله‏:‏ وليتخذ ذلك أصلاً لما يرد من التكرار في سائر القرآن فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان، وتقرره في الأفهام، لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام، ولا تدركها العقول، فليس في تكلف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابتلى‏}‏ الابتلاء‏:‏ الامتحان والاختبار، أي‏:‏ ابتلاه بما أمره به، و‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ معناه في السريانية أب رحيم، كذا قال الماوردي، قال ابن عطية‏:‏ ومعناه في العربية ذلك‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني، والعربي‏.‏ وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدّم لفظاً، فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره، أو ترد في مثله الأسئلة، أو يسوّد وجه القرطاس بإيضاحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏بكلمات‏}‏ قد اختلف العلماء في تعيينها، فقيل‏:‏ هي شرائع الإسلام، وقيل ذبح ابنه، وقيل أداء الرسالة، وقيل‏:‏ هي خصال الفطرة، وقيل‏:‏ هي قوله ‏{‏إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ وقيل‏:‏ بالطهارة كما سيأتي بيانه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن هذا كله مما ابتلى به إبراهيم‏.‏ انتهى‏.‏ وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنّى جاعلك‏}‏ وما بعده، ويكون ذلك بياناً للكلمات، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك، وعن آخرين ما يخالفه‏.‏ وعلى هذا، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنّى جاعلك للناس‏}‏ مستأنفاً كأنه قيل‏:‏ ماذا قال له‏.‏ وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال‏:‏ فلو قال قائل‏:‏ إن الذي قاله مجاهد، وأبو صالح، والربيع بن أنس أولى بالصواب‏:‏ يعني أن الكلمات هي قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 125‏]‏ وما بعده، ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ أي قام بهنّ أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال‏.‏ والإمام هو‏:‏ ما يؤتم به، ومنه قيل‏:‏ للطريق‏:‏ إمام، وللبناء إمام، لأنه يؤتمّ بذلك، أي‏:‏ يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس، لكونهم يأتمون به، ويهتدون بهديه، أطلق عليه هذا اللفظ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَتِى‏}‏ يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي‏:‏ واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام، وإن لم يكن بصيغته‏:‏ أي‏:‏ ومن ذريتي ماذا يكون يا ربّ‏؟‏ فأخبره أن فيهم عصاة، وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك، ولا يقومون به، ولا ينالهم عهد الله سبحانه‏.‏ والذرية مأخوذة من الذرّ؛ لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذرّ، وقيل مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم‏:‏ إذا خلقهم‏.‏ وفي الكتاب العزيز‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرياح‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏ قال في الصحاح‏:‏ ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً، أي‏:‏ نسفته، وقال الخليل‏:‏ إنما سموا ذرية؛ لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر‏.‏ واختلف في المراد بالعهد، فقيل الإمامة، وقيل النبوّة، وقيل‏:‏ عهد الله‏:‏ أمره‏.‏ وقيل الأمان من عذاب الآخرة، ورجّحها الزجاج، والأوّل أظهر كما يفيده السياق‏.‏

وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل، والعمل بالشرع، كما ورد؛ لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً‏.‏

ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد، وما تفيده الإضافة من العموم، فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب، ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية‏.‏ وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية، وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا‏.‏ فالأولى أن يقال‏:‏ إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً، وإنما قلنا‏:‏ إنه في معنى الأمر؛ لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف‏.‏ وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة، وغيرها كثيراً من الظالمين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا البيت‏}‏ هو‏:‏ الكعبة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، و‏{‏مَثَابَةً‏}‏ مصدر من ثاب يثوب مثاباً، ومثابة، أي‏:‏ مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة‏:‏

مَثاب لأفْنَاءِ القبائل كُلَّها *** تَخُبُّ إلَيها اليَعْمَلاتُ الذَّوابلُ

وقرأ الأعمش «مثابات» وقيل المثابة من الثواب، أي‏:‏ يثابون هنالك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الشاعر‏:‏

جُعِل البيْتُ مَثابات لَهُم *** ليْسَ منه الدهرَ يَقْضُونَ الوَطرْ

قال الأخفش‏:‏ ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه، فهي كعلامة ونسابة‏.‏ وقال غيره‏:‏ هي للتأنيث، وليست للمبالغة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْناً‏}‏ هو اسم مكان أي‏:‏ موضع أمن‏.‏ وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحدّ على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ وقيل إن ذلك منسوخ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلّىً‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض‏:‏ أي‏:‏ جعلنا البيت مثابة للناس، وأمناً، واتخذوه مصلى‏.‏ وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على ‏{‏اذكروا‏}‏ المذكور أوّل الآيات، أو على ‏"‏ اذكروا ‏"‏ المقدّر عاملاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ‏}‏ ويجوز أن يكون على تقدير القول، أي‏:‏ وقلنا اتخذوا‏.‏ والمقام في اللغة‏:‏ موضع القيام، قال النحاس، هو من قام يقوم، يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام من أقام، وليس من هذا قول الشاعر‏:‏

وَفيِهم مَقَامات حِسانٌ وجوهها *** وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ

لأن معناه أهل مقامات‏.‏ واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس، ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل المقام الحج كله، روى ذلك عن عطاء، ومجاهد، وقيل‏:‏ عرفة، والمزدلفة، روي عن عطاء أيضاً، وقال الشعبي‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم، وروى عن مجاهد‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ‏}‏ قال‏:‏ ابتلاه الله بالطهارة‏:‏ خمس في الرأس؛ وخمس في الجسد‏.‏ في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد‏:‏ تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط، والبول بالماء‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، وابن عساكر عنه؛ قال‏:‏ ما ابتلى أحد بهذا الدين، فقام به كله إلا إبراهيم‏.‏ وقرأ هذه الآية فقيل له‏:‏ ما الكلمات‏؟‏ قال‏:‏ سهام الإسلام ثلاثون سهماً‏:‏ عشرة في براءة ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏، وعشرة في أوّل سورة ‏{‏قد أفلح‏}‏ و‏{‏سأل سائل‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ الآيات ‏[‏المعارج‏:‏ 26‏]‏، وعشرة في الأحزاب ‏{‏إِنَّ المسلمين‏}‏ إلى آخر الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، فَأَتَمَّهُنَّ كلهنّ فكتب له براءة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإبراهيم الذى وفى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم عنه قال‏:‏ منهنّ مناسك الحج‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ الكلمات‏:‏ ‏{‏إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ و‏{‏وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد‏}‏ والآيات في شأن المناسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، وبعث محمد في ذريتهما‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات‏}‏ قال‏:‏ ابتلي بالآيات التي بعدها‏.‏ وأخرجا أيضاً، عن الشعبي مثله‏.‏ وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال‏:‏ الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم، فأتمهنّ‏:‏ فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه، من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار، ليحرقوه في الله، والهجرة بعد ذلك من وطنه، وبلاده حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة، والصبر عليها، وما ابتلى به من ذبح ولده، فلما مضى على ذلك كله‏:‏ قَالَ الله له‏:‏ ‏{‏أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن قال‏:‏ ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس، فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة، فرضي عنه، وابتلاه بالختان، فرضي عنه، وابتلاه بابنه، فرضي عنه‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَتَمَّهُنَّ‏}‏ قال‏:‏ فأداهُنّ‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فطرة إبراهيم السواك» قلت‏:‏ وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح، فهو مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يحلّ الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال‏:‏ من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم، ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال‏:‏ ست من فطرة إبراهيم‏:‏ قص الشارب، والسواك، والفرق، وقص الأظفار، والاستنجاء، وحلق العانة، قال‏:‏ ثلاثة في الرأس وثلاثة في الجسد‏.‏

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح، وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة، ولم يصح عن النبي أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم‏.‏ وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي، وحسنه عن ابن عباس قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصّ، أو يأخذ من شاربه»‏.‏ قال‏:‏ «وكان خليل الرحمن إبراهيم يفعله»‏.‏ ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلى بها، وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول‏:‏ إنها ما ذكره الله سبحانه في كتابه بقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنّى جاعلك‏}‏ إلى آخر الآيات، ويكون ذلك بياناً للكلمات، أو السكوت، وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه،

وأما ما روي عن ابن عباس، ونحوه من الصحابة، ومن بعدهم في تعيينها، فهو أوّلاً أقوال صحابة لا تقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، وأن له حكم الرفع، فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمتنع معه العمل ببعض ما روى عنهم دون البعض الآخر، بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس، فكيف يجوز العمل بذلك‏؟‏ وبهذا تعرف ضعف قول من قال‏:‏ إنه يصار إلى العموم، ويقال تلك الكلمات هي‏:‏ جميع ما ذكر هنا، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف، والمتناقض، وما لا تقوم به الحجة‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس، ‏{‏قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ يقتدى بدينك، وهديك، وسنتك ‏{‏قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى‏}‏ إماماً لغير ذريتي‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏ أن يقتدي بدينهم، وهديهم، وسنتهم‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم، عنه قال‏:‏ قال الله لإبراهيم‏:‏ ‏{‏إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى‏}‏ فأبى أن يفعل، ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال‏:‏ هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا، فقد نالوا عهده، فوارثوا به المسلمين، وغازوهم، وناكحوهم، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده، وكرامته على أوليائه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال‏:‏ لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به، وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال‏:‏ يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده، ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عنه أنه قال‏:‏ ليس لظالم عليك عهد في معصية الله‏.‏ وقد أخرج وكيع، وابن مردويه من حديث عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين‏}‏ قال‏:‏ «لا طاعة إلا في المعروف»، وإسناده عند ابن مردويه هكذا‏:‏ قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وكيع عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، من حديث عمران بن حصين، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، أنه قال في تفسير الآية‏:‏ ليس للظالم عهد، وإن عاهدته فانقضه‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وروى عن مجاهد، وعطاء، ومقاتل، وابن حبان نحو ذلك‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً‏}‏ قال‏:‏ يثوبون إليه، ثم يرجعون‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه أنه قال‏:‏ لا يقضون منه وطراً يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَمْناً‏}‏ قال‏:‏ أمناً للناس‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره من حديث أنس، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث، قلت‏:‏ يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى‏}‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ، والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهنّ‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ فنزلت كذلك، وأخرجه مسلم، وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه‏.‏ وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم، فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى‏}‏» وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات، وغيرها، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو‏:‏ الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو‏:‏ الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة، وأوّل من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي، بإسناد صحيح، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ «لما طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له عمر‏:‏ هذا مقام إبراهيم‏؟‏» قال‏:‏ «نعم»‏.‏ وأخرج نحوه ابن مردويه‏.‏